شكراً..
نطقتُها، وكأنّها حصاةً سقطتْ من فمي، بعد أن مدّ يده إليّ ليضيّفني “علكة”
ويسألني:
هل أنت عربي؟
هززتُ رأسي بالإيجاب..
كنتُ قد تجاوزتُ امتحانَ الكلامِ معهُ، حينَ ناولني حزامَ الأمانِ، تظاهرتُ أنّي أبحثُ عنه تحتي، وصدَّق، مع أنّ هندامي لا يوحي بأنني أسافرُ في الطائرة للمرّة الأولى في حياتي.
وقتها اكتفيتُ بهزّ رأسي ومدّ ابتسامةٍ ناشفةٍ.
التصقتُ بالمقعد حينَ علا هديرُ الإقلاع. كلّ ما في جسدي توقّف، تعطلتْ مداركي، بالكاد أشعرُ بهسيس أنفاسي، وليسَ في مسمعي سوى صوت ضربات قلبي وهي تصطكّ بفراغ صدري.
كنتُ أتحاشى الالتفاتَ نحو الرّجل الجالس في المقعد الوسط، إلى جانبي، وكلما سرقتُ نظرةً خاطفةً نحو النافذة الصغيرة، يزداد شعوري بالخوف والفراغ.
كنتُ قد غادرت مطار أثينا باتجاهٍ.. لا أعرفهُ
…وكانَ المجهولُ وحدهُ مَدرجَ الهبوط .
“المُهرّبة” التي اتفقتُ معها، قالتْ إنّها ستوصلني إلى ألمانيا، إلى هامبورغ تحديداً
ومنذ الصباح وأنا مثلَ طردٍ بريديّ بين يد عناصرها، لا أعلمُ عند أيّ بابٍ سيحطّ بي الترحال.
عندَ بوابة المغادرين في المطار ناولوني بطاقة الطائرة وقالوا لي: قفْ هنا في هذا الصف الطويل! ثم اختفوا.
حينَ استوتِ الطائرةِ على عرشِ السماء، عرفتُ من الشاشةِ المُعلّقة في سقفها أنّنا باتجاه روما.. لماذا روما؟! لا أعلم…!
كانتْ حركاتي مضبوطةً تماماً، فأيّ تصرّف منّي يوحي بأنني سوري يمكن أن يصبحَ سبباً في اعتقالي وإنزالي من الطائرة، أي؛ معاناة “سيزيفيّة” جديدة.
أتخيلُ بين لحظةٍ وأخرى، أنّ مضيفين ضخمين، يقبضان عليّ ويرميانني من نافذه الطائرة بعد أن يعرفا، أنني لست صاحب الاسم المدوّن في جواز السفر الذي أحملهُ.
أنشغلُ بالنظر إلى النافذة أو التفتيش في جيوب جاكيتي ريثما تجتازني المضيفة التي تعبر الممرّ.
- مسافر إلى روما؟ يسألني.
- نعم! قلتُ.. دون أن ألتفت.
– مِنْ أيّ بلد أنتَ؟
لن أجازفَ بذكرِ اسم بلدٍ لا أتقنُ لهجتهُ.
– من لبنان.
– سياحة أم عمل؟
مازالتْ مَطارقُ أسئلته تدّق رأسي، وكنت أتحاشى أن يسمعني أحدٌ حين أجيب
لكنني سأجاريه، لعلي أمتحنُ متانةَ أعصابي أو أُسكتَ جوع حِشريّته.
ـماذا تعملْ؟
- دكتور!
- طبيب؟
- لا.. أستاذُ في علم الآثار، وأنا مدعوّ لحضور مؤتمر عن الآثار الشرقيّة في روما.
قلتُ ذلك رَشّاً.. بعد أن ابتعد المضيفان عن مقعدنا وهما يجرّان عربة الضيافة باتجاه المقاعدِ الخلفيّة من الطائرة .
لحظتها كنتُ قد انتبهتُ إلى امرأة تجلسُ في المقعد الثالث إلى جانبه
كانتْ تضع رأسها بين يديها وتفتعلُ حركاتِ الرفض، كلما حاولَ توجيه الكلام إليها أو لمس يدها.
يعني تحكي إيطالي؟
- لا ..
- كيف إذاً…؟
- هناك مترجمون.
هزّ رأسه، ثم وضعَ يده على كتف المرأة وقال: هذي عروستي، قِدمنا من الخليج ونحن الآن في شهر العسل، زرنا إسطنبول وأثينا وفي طريقنا “الحين” إلى روما وبعدها نكمل إلى باريس.
لكن عروستي الآن زعلانة، سمعتْ أنّ بركةَ الأمنيات في روما مُغلقة؛ قال “يصلّحون بيها” تريدُ أن ترمي فيها قطعاً من النقود المعدنيّة؛ لتتفاءل بحياة زوجيّة سعيدةً.
وهي غاضبة الآن، تعتبرُ أنّ ذلك فألاً سيّئاً في بداية حياتنا الزوجيّة.
كانتْ قد اقترحتْ عليّ أن نزور إيطاليا أولاً، لكنني فضّلت تركيا، لذلك تحملني مسؤولية ذلك.
كانتِ المرأة تديرُ وجهها باتجاه جدار الطائرة، كطفلٍ حردَ صباح العيد، يرفض ارتداء ملابسه الجديدة.
هل تعرف متى ينتهون من صيانة البركة؟
أخذتُ نفساً عميقاً، خلتُ أنني أمتصّ كلّ هواء الكون لأستعدّ لانفجارٍ هائلٍ.
بصمتٍ مددتُ يدي فككت حزام الأمان عن كرسي الطائرة، استجمعتُ كلّ ما فيّ من غضب المشردين في غابات تركيا ودروب البلقان وجزر اليونان.
ألتفتّ إليها وأنا أهمّ في أن أصرخ يا أولاد.. من شهرين وأنا مشرّد بين أرصفة الشوارع وصخور الغابات، لايزال الملح طريّاً على جسدي، أصوات من غرقوا تفتّت هدوء ليلي وأنتم …
في المساء، زرتُ بركة الأمنيات، رميتُ فيها حجراً ومضيت.